عندما نحب شخصاً أو شيئاً ما فإن مشاعرنا هذه تكون تطوراً طبيعياً لإحساسنا المبدئي اتجاه المحبوب، إحساس بالارتياح، بالقبول، بالاستمتاع في قضاء الوقت معه، ومن الصعب أن نجبر أنفسنا على الحب إذا لم نعِش هذه المرحلة مسبقاً.
إذن، سبيلنا الأسهل للتعلق بهذه اللغة وحبّها هو الاستمتاع بها، بقضاء الوقت بين كلماتها ومرادفاتها.
كيف نفعل ذلك؟
1. التربية منذ الصغر على تقدير الكتاب والمحتوى
في صغري، عندما كان أحدنا يضطر لتناول وجبةٍ ما وحيداً كان الخيار الأول للتسلية هو الكتاب (وليس التلفزيون أو الكمبيوتر). وعندما أقول الكتاب لا أعني روايةً عالمية أو كتاباً في الفكر أو الفلسفة، بل أي مجموعةٍ من الأوراق كُتب فيها نصٌ عربي ما وجُمعت تحت عنوانٍ واحد، كقصّةٍ بوليسية قصيرة، أو رواية “جيب”، أو حتى قصة مصورة (comic) كقصص روائع الأدب العالمي أو سوبرمان أو ميكي ماوس.
كنا نقرأ أي شيء وكل شيء، وهناك مواد غنيّة مناسبة لكل الأعمار ومتوفرة رغم فقر الإنتاج اللغوي مقارنةً ببعض اللغات الأخرى. فقط ابحث عن المناسب لأطفالك حسب أعمارهم واهتماماتهم.
أدرك بالطبع تغيّر الزمن الحالي واختلافه الكبير عن فترة تربيتي، الأمور الآن أسرع والتركيز على المعلومة المرئية أكبر بكثير من المقروءة نظراً لقدرة المحتوى المرئي على إيصال المعلومة بشكل أسرع وأكثر جاذبية.
لكن إذا وضعت ذلك كهدف واضح أمامك سيمكنك بالتأكيد ابتكارَ شيءٍ ما يناسب أطفالك. والدتي -بارك الله في عمرها- كانت السبب الرئيسي وراء حبّنا للقراءة، كانت تقرأ لنا قصص الأطفال مثل (المكتبة الخضراء)* أو تحكي لنا قصصاً من ذاكرتها بطريقتها الخاصة كقصص الأنبياء والتراث الإسلامي، وكانت تقصّها علينا بشكلٍ حواريّ لا سردي، فتسألنا وتسمح لنا بتخمين الجواب، أو تجعل من أسئلتنا نقطة انطلاق متجددة لأحداث الحكاية القادمة.
وأود التنبيه لنقطة مهمة هنا، حيث ترفض الكثير من العائلات الملتزمة استخدام القصص المترجمة أو الروايات المعتمدة على أمورٍ خياليّة مثل الجنيات والساحرات وغيرها بحجة اختلافها مع ديننا والخوف من تأثيرها على نشأة الأطفال.
هذه الموّاد من أكثر ما يساعد على تنمية خيال الطفل ومساعدته على الإبداع، خصوصاً إذا كانت هذه القصص تُسمع ولا تُشاهد حيث يعمل خيال الطفل على تغطية النقص بصور من خياله يعجز عن إنتاجها أعظم استديو أو مخرج، ومع التوجيه الصحيح سيفهم الطفل أن هذه القصص لا تصوّر الواقع وسيجد طريقته ليتعايش مع هذا الفصل بسلام.
أعود لحكايات والدتي، فالنقطة الأهم في رأيي في ترسيخ اللغة في عقولنا منذ الصغر كانت لجوءَها إلى تسجيل كل هذه الجلسات “الحكواتية” على شريط كاسيت وكنا نستمع إليه مرّاتٍ ومرّاتٍ قبل النوم فترسخ القصص ويرسخ النطق الصحيح في أذهاننا دون إدراكٍ منّا أو حتى محاولةٍ للحفظ.
تخبرني والدتي أنني اعتدتُ قراءة القصص لأختي الصغيرة عندما كانت ابنة الثالثة وكنت أنا في الخامسة من عمري، ولا أظن أن طفلاً في الخامسة يمكنه قراءة نصٍ كامل دون مساعدة أو تصحيح إلا إذا كان يعتمد على ذاكرته أكثر من التهجئة الفعلية لما يقرأ أمامه.
أختي الصغيرة الآن تحاول القيام بالشيء ذاته مع اختلاف الزمن، ولها تجربة شيقة مع ابنتيها الصغيرتين يمكنكم الاطلاع عليها في مدوّنتها “أشياء صغيرة” http://www.littletinythings.net، وأذكر أنها قامت بإنشاء مدوّنة منفصلة لابنتها الأولى وتجاربهما سويّة.
أثق تماماً أن من يبحث عن طريقة تتواءم مع معطيات العصر الذي نعيشه اليوم سيستفيد من المنهج الذي اتبعته شقيقتي، رغم أنني أشفق على الطفلتين من اعوجاج اللسان بين الألمانية، والعربية الفصحى، واللهجة الحلبية :).
2. البحث عن المحتوى الممتع
اقرأ ما يناسبك، ولا تلتفت لغير ذلك. نصائح من حولنا وآراؤهم قد تكون مفيدة أحياناً لكن لا تسمح لها بتقييد اختياراتك.
حتى القصص المصورة قد تكون مصدراً غنيّاً للثقافة العامة والاطلاع، فسلسلة روائع الأدب العالمي وبساط الريح الصادرتين عن مؤسسة بساط الريح اللبنانيّة مكنتني من الاطلاع على أعظم الروايات العالمية (مثل: الفرسان الثلاثة، قصة مدينتين، الرجل ذو القناع الحديدي، ماكبث، جين آير، هاملت، روبنسون كروزو، إلخ) في عمر صغير جداً وبشكل ميسّر وشيّق.
أيضاً قصص “سوبرمان” وغيره من الأبطال الخارقين، “ميكي ماوس” وعائلة “والت ديزني”، “تان تان” وسلسلة قصص “تان تان” التي كانت إصداراً منفصلاً يحوي العديد من الشخصيات الأخرى والمنفصلة تماماً عن بعضها.
ارتباطك بشخصيّات وأحداث الكتاب يجعلك ترتبط باللغة التي تقرأ بها أكثر. وكلما كنت جيداً في لغة الكتاب الذي تقرؤه كلما ازددت قرباً من محتواه.
3. قراءة النصوص الفصيحة
وأقصد النصوص الفصيحة التي تضمن خلوّها من الخطأ، إذ لا يمكننا الاعتماد على الكتب الصادرة في يومنا هذا أو -الأسوأ- محرري الصحف والمجلات.
أول النصوص الفصيحة وأعظمها هو القرآن. يمكنك أن تتعلّم اللغة العربية وتفهمها وتحبها إذا تعوّدت قراءة القرآن والبحث في التفاسير التي تركزعلى بلاغة اللغة.
مثلاً، عندما تقرأ في سورة الشرح الآيتين التاليتين: (فإن مع العسر يسراً، إن مع العسر يسراً) ثم تقرأ في التفسير قول ابن عباس: لا يغلب عسرٌ يُسرَين. ويقصد بذلك أن كلمة العسر جاءت معرّفة بأل التعريف وكلمة اليسر كانت نكرة، وفي اللغة المعرّف واحد والمنكر متعدد*، فكانت رحمة ربنا بأن وعد عباده بسبل متعددة لتيسير ما يصيبهم من عسر واحد.
عندما تقرأ مثل هذا التفسير، تدرك عظمة “أل” التعريف وترسخ هذه المعلومة في ذهنك. والأمثلة من القرآن كثيرة جداً منها التفريق في استخدام الواو والفاء في العطف، بل حتى علامات التوقف والوصل. وقصص الأنبياء المذكورة في القرآن حافلة بمثل هذه الأمثلة الممتعة لغويّاً.
ثم دواوين الشعر القديمة وكتب المفكرين والفلاسفة، فاختر منها ما يناسبك ويقترب من هواك واقرأه وتمعن فيه.
أذكر أن أحد اخوتي كان يذهب إلى مكتبة (محل بيع كتب) أحد أصدقاء والدي بعد الانتهاء من مدرسته لينوب عنه في البيع وخدمة الزبائن، وقد كنت أرافقه أحياناً فيعطيني بعض الدواوين الشعرية لأقرأها وأحفظ منها ما أستطيع، وأسأله عن مالم أفهمه من كلمات فيشرحه لي.
من بينها كان ديوان “امرؤ القيس”، ولا زلت حتى اليوم أحفظ أجزاءً من بعض قصائده منذ ذلك الوقت ولم يكن عمري يتجاوز التاسعة.
هناك أيضاً الأبيات الشعرية الطريفة التي كتبها عباقرة الشعراء والتي تُقرأ من جهتين مختلفتين، فإذا قرأتها من اليمين لليسار كانت مدحاً، وإذا عكست الاتجاه أصبحت هجاءً وتقريعاً.
أو التي تستخدم كلماتٍ متشابهة بنطقٍ مختلف كبيت المتنبي (ألمٌ ألمّ ألمْ ألمّ بدائه، إن أنّ آنّ آنَ أنُ أوانه)، ويمكنكم البحث عن معناه في الإنترنت :).
وأيضاً طرائف النحويين وفي تاريخنا منها الكثير الوفير.
كل هذه النصوص تساعدك على تمرين لسانك وتعويده على النطق الفصيح دون تكلف أو عناءٍ منك، فتصبح سليقتك أفضل وقراءتك أصح حتى لو لم تقرأ التشكيل أو تعرف إعراب الكلمات.
ولا زلت أذكر موقفاً بسيطاً في أحد أعوامي الدراسية الأولى ولم نكن نعرف جمع المؤنث السالم وقتها، وكنت أقرأ نصاً في أحد الكتب ومررت على جمع مؤنث سالم منصوب فكسرت آخره، فسألني المدرس لمَ كسرت آخره وأنت تعرف أن المنصوب آخره مفتوح؟ فقلت لا أدري، ولكنها أقرب إلى لساني بالكسر.
4. تحدّى نفسك
لا تنسَ، اللغة العربيّة من أغزر اللغات على وجه الأرض، ولديها القابلية للتجديد بشكل كبير جداً. لا تلتفت لمن يرفض استخدام الكلمات الغربيّة ضمن النص العربيّ ويحاول اختراع مرادفٍ لها، فالعربية قبلت الكلمات الدخيلة منذ بدايتها وحتى اليوم، وعظمة اللغة في استمراريتها ومرونتها.
لذا، جرّب فقط لأجل المتعة وتحدّي النفس، أن تجد مرادفاً لأي كلمة أجنبيّة تمر أمام ناظريك. جرب أن تترجم الشعارات التسويقية، النكت القصيرة، والتلميحات التي تعتمد على اللغة بشكل كبير.
___________________________
* المكتبة الخضراء للأطفال: سلسلة قصص مترجمة من أشهر القصص الغربيّة (سنوهوايت، سندريلا، الجميلة والوحش، إلخ) بأسلوبٍ شيق ومبسط. صادرة عن دار المعارف.
* عندما تعرّف سيارة مثلاً على أنها سوداء وقديمة، أو أنها سيارة فلان، في أول النص ثم تذكر مجرد كلمة “السيارة” مرة أخرى ضمن النص سيدرك القارئ أنك تعني السيارة السوداء القديمة أو سيارة فلان.
وتسري هذه القاعدة في الإنجليزية أيضاً، فعندما تُسبق الكلمة بـ (the) فالقصد هو تعريف ما جاء بعدها ضمن كامل النص الآتي.