في مطبخ جدتي

في مطبخ جَدّتي قِدْرٌ نحاسي، يَسَعُ من البهجة والدفء ما يكفي ثلاثة أجيال. قدر جدتي لا ينضب. تصنع فيه حساءً من ألوان قوس قزح، تمزجها بشجر الزيتون والصنوبر، ثم تعطره بالفل والريحان، وبقايا الحنّة الحمراء في كفّيها. عند كل ظهيرة، نجلس على طاولتها الصغيرة. مائة من الأولاد والأحفاد، وبيننا للضحك متّسعٌ لا يزال. ننهمُ حساءها نحن العميان، فنبصر الحياة. نرتشف في كل ملعقةٍ حكايةً أخرى من حكاياتِ جدتي، فنرى الجبلَ الذي قُصّت منه حجارة المنزل، والبذرة التي أنبتت شجر الليمون والبرتقال في حديقته، ونرى الحب…

أربعون ساعةً من الأرق

تك… تك… تك… في قدح القهوة تغرقُ سماءٌ زرقاء، وتنبتُ عينان سوداوان. تك… تك… تك… سيجارةٌ خلف سيجارة، في كل دُخان يتشكّل وجهٌ آخر للمستقبل، ثم يتلاشى. تك… تك… تك… غروب، شروق. غروب، شروق. يحمرّ وجه الشمس من الدماء المسكوبة. تك… تك… تك… تتكوّمُ الثواني، وأنينُ الأرفف تحتها أذانٌ بالانهيار.

لا، لستُ بخير

لا، لستُ بخير. يُرعبني هذا الوقت الذي لا يعود، أن أرى قوافل الثواني تسيرُ بلا توقف، في شارعٍ ذي اتجاهٍ واحد. يرعبني هذا الحزن الذي يصهر قلبي وعجزي عن البكاء. يرعبني هذا السكون إذ يفتح الباب على مصراعيه لجميع التساؤلات والأفكار الحبيسة، وأرى المستقبلَ خلفهم واقفًا وفي عينيه الخاويتين سؤال واحد: ماذا بعد؟ يرعبني هذا البرد الذي يلُفّني. ما عاد شيءٌ يُدْفئُني. تنهمرُ أشعّة الشمس كالرماح، فقط لتنطوي على جسدي كسنابل القمح المُثْقلَة. يرعبني هذا الصراع بين الجسد والروح، بين الرغبة في البقاء، والتَّوْق إلى…

مكوّمًا في زاوية العتمة

مُكوّمًا في زاوية العتمة أرقُب في هلعٍ ضوءَ حضوركِ وهو يتمدّد نحوي كنقطةِ زيتٍ في مقلاة. يُحرقُ أطرافَ الليل، يتعلّقُ بها كعباءَةِ بدويّ يخطو فوق النار. تقتربين أكثر، أنكمش أكثر، أشُدّ على أكتافي لحافَ وحدتي المهترئ. تمدّين يدكِ كسكّينٍ ساخنة تقطعُ طريقها في طيّات السواد ببطءٍ وثباتٍ وتروّي. تمدين يدك وأسمعُ أنينَ البرد وهو يحتضر كلما لامسَ إصبعك. تسقطُ كل أسواري، أقنعةُ الزّيف وأوراق التوت. يبدأ جلدي العاري بالذوبان، ويحيا الألم في عروقي. أنتِ ملاكٌ لم يتعلّم طرقَ الأبواب، وأنا عنقاءٌ لا زالت تنتظر الحرق.